سورة ص - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} أي ما استغفرَ منه. ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقي ساجداً أربعينَ يوماً وليلةً لا يرفعُ رأسَه إلا لصلاةٍ مكتوبةٍ أو لما لا بُدَّ منه ولا يرقأُ دمعُه حتَّى نبتَ منه العشبُ إلى رأسه ولم يشرب ماء إلا ثلثاه دمعٌ وجهد نفسَه راغباً إلى الله تعالى في العفوِ عنه حتَّى كادَ يهلك واشتغل بذلك عن المُلكِ حتَّى وثبَ ابنٌ له يقال له إيشا على ملكِه ودعا إلى نفسِه فاجتمع إليه أهلُ الزَّيغِ من بني إسرائيلَ فلمَّا غُفر له حاربَه فهزمَه {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} لقُربةٍ وكرامة بعد المغفرة {وَحُسْنُ مَئَابٍ} حسنَ مرجعٍ في الجنَّةِ.
{ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض} إمَّا حكاية لمَّا خُوطب به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبينة لزُلفاه عنده عزَّ وجلَّ وإمَّا مقولُ قولٍ مقدَّرٍ هو معطوف على غفرنا، أو حالٌ من فاعله أو وقُلنا له أو قائلين له يا داودُ إلخ أي استخلفناك على المُلك فيها والحكمِ فيما بينَ أهِلها أو جعلناك خليفةً ممَّن كان قبلك من الأنبياء القائمينَ بالحقِّ وفيه دليلٌ بيِّنٌ على أنَّ حالهَ عليه الصَّلاة والسَّلام بعد التَّوبةِ كما كانت قبلها لم تتغيَّرْ قَط.
{فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} بحكم الله تعالى فإنَّ الخلافةَ بكلا معنييه مقتضيةٌ له حتماً {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدِّين والدُّنيا {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} بالنَّصبِ على أنَّه جوابُ النَّهي. وقيل: هو مجزومٌ بالعطفِ على النَّهيِ مفتوحٌ لالقتاءِ السَّاكنينِ أي فيكون الهوى أو اتِّباعُه سبباً لضلالِك عن دلائلِه التي نصبها على الحقِّ تكويناً وتَشريعاً. وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله} تعليلٌ لما قبله ببيانِ غائلتِه وإظهار سبيلِ الله في موقعِ الإضمارِ لزيادة التَّقريرِ والإيذانِ بكمال شناعةِ الضَّلالِ عنه {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} جملة من خبرٍ ومبتدأٍ وقعت خبراً لأنَّ أو الظَّرفُ خبراً لأنَّ وعذابٌ مرتفع على الفاعليةِ بما فيه من معنى الاستقرارِ. {بِمَا نَسُواْ} بسبب نسيانِهم وقوله تعالى: {يَوْمِ الحساب} إما مفعولٌ لنسُوا فيكون تعليلاً صريحاً لثبوت العذابِ الشَّديدِ لهم بنسيان يوم الحسابِ بعد الإشعارِ بعلِّيةِ ما يستتبُعه ويستلزمه أعني الضَّلالَ عن سبيل الله تعالى فإنَّه مستلزمٌ لنسيانِ يوم الحساب بالمرَّةِ بل هذا فردٌ من أفرادِه أو ظرفٌ لقوله تعالى: لهم أي لهُم عذابٌ شديدٌ يومَ القيامةِ بسببِ نسيانِهم الذي هو عبارةٌ عن ضلالِهم، ومن ضرورتِه أن يكون مفعولُه سبيلِ الله فيكون التَّعليلُ المصرح به حينئذٍ عينَ التَّعليلِ المشعر به بالذَّاتِ غيره بالعُنوان ومَن لم يتنبه لهذا السرِّ السريِّ قال بسبب نسيانِهم وهو ضلالُهم عن السَّبيلِ فإنَّ تذكَّره يقتضي ملازمةَ الحقِّ ومخالفةَ الهَوَى فتدبَّر.
{وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} كلامٌ مستأنفٌ مقررٌ لما قبله من أمرِ البعثِ والحسابِ والجزاءِ وما خلقناهُما وما بينهما من المخلوقاتِ على هذا النِّظامِ البديعِ الذي تحارُ في فهمِه العقولُ خلقاً باطلاً أي خالياً عن الغايةِ الجليلةِ والحكمةِ الباهرةِ بل منطوياً على الحقِّ المُبين والحِكم البالغةِ حيثُ خلقنا من بينِ ما خلقنا نُفوساً أودعناها العقلَ والتَّمييزَ بين الحقِّ والباطلِ والنَّافعِ والضَّارِّ ومكنَّاها من التَّصرفاتِ العلميةِ والعمليةِ في استجلابِ منافعِها واستدفاعِ مضارِّها ونصبنا للحقِّ دلائلَ آفاقيةً وأنفسيةً ومنحناها القُدرةَ على الاستشهادِ بها ثم لم نقتصرْ على ذلك المقدارِ من الألطافِ بل أرسلنا إليها رُسلاً وأنزلنا عليها كُتباً بيّنّا فيها كلَّ دقيقٍ وجليلٍ وأزحنا عللَها بالكلِّية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمةِ وأعددنا لها عاقبةً وجزاءً على حسب أعمالِها {ذلك} إشارةٌ إلى ما نُفي من خلقِ ما ذُكر باطلاً {ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} أي مظنونهم فإنَّ جحودَهم بأمرِ البعثِ والجزاءِ الذي عليه يدورُ فلكُ تكوينِ العالمِ قولٌ منهم ببطلانِ خلقِ ما ذُكر وخلوِّه عن الحكمةِ سبحانَهُ وتعالى عمَّا يقولون علوّاً كبيراً. {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} مبتدأٌ وخبرٌ والفاءُ لإفادةِ ترتُّبِ ثبوتِ الويلِ لهم على ظنِّهم الباطلِ كما أنَّ وضع الموصولِ موضعَ ضميرهم للإشعارِ بما في خيِّز الصِّلةِ بعلية كفرهم له، ولا تنافى بينهما لأنَّ ظنَّهم من باب كُفرِهم. ومِن في قوله تعالى: {مِنَ النار} تعليليةٌ كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} ونظائرِه، ومفيدةٌ لعليَّةِ النَّار لثبوتِ الويلِ لهم صَريحاً بعد الإشعارِ بعليةِ ما يُؤدِّي إليها من ظنِّهم وكفرِهم أي فويلٌ لهم بسببِ النَّارِ المترتِّبةِ على ظنِّهم وكفرِهم.


{أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الارض} أم منقطعةً، وما فيها من بلْ للإضرابِ الانتقاليِّ عن تقرير أمر البعثِ والحسابِ والجزاء بما مرَّ من نفيِ خلقِ العالم خالياً عن الحكمِ والمصالحِ إلى تقريرِه وتحقيقِه بما في الهمزةِ من إنكار التَّسويةِ بين الفريقينِ ونفيها على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أي بل أنجعلُ المؤمنينَ المُصلحينَ كالكَفَرةِ المُفسدين في أقطارِ الأرضِ كما يقتضيه عدمُ البعثِ وما يترتَّبُ عليه من الجزاءِ لاستواء الفريقين في التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا بل الكَفَرةُ أوفرُ حظَّاً منها من المؤمنينَ لكن ذلك الجعلُ محالٌ فتعيَّن البعثُ والجزاءُ حتماً لرفع الأوَّلينَ إلى أعلى عِلِّييِّنَ وردِّ الآخرينَ إلى أسفلِ سافلينَ. وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} إضرابٌ وانتقالٌ عن إثبات ما ذُكر بلزوم المحالِ الذي هو التَّسويةُ بين الفريقينِ المذكُورينِ على الإطلاقِ إلى إثباتِه بلزومِ ما هو أظهرُ منه استحالةً وهو التَّسويةُ بين أتقياءِ المؤمنينَ وأشقياءِ الكَفَرةِ وحملُ الفُجَّار على فَجَرةِ المُؤمنين ممَّا لا يساعدُه المقامُ ويجوزُ أنْ يرادَ بهذينِ الفريقينِ عينُ الأوَّلينِ ويكون التَّكريرُ باعتبارِ وصفينِ آخرينِ هما أدخلُ في إنكار التَّسوية من الوصفينِ الأوَّلين وقيل قال كفَّارُ قُريشٍ للمؤمنين: إنَّا نُعطَى في الآخرةِ من الخيرِ ما تُعطَون فنزلتْ. {كِتَابٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ هو عبارةٌ عن القُرآن أو السُّورةِ. وقولُه تعالى: {أنزلناه إِلَيْكَ} صفتُه. وقوله تعالى: {مُّبَارَكٌ} خبرٌ ثانٍ للمتدأِ أو صفةٌ لكتابٌ عند مَن يُجوِّز تأخيرَ الوصفِ الصَّريحِ عن غيرِ الصَّريحِ. وقرئ: {مباركاً} على أنَّه حالٌ من مفعولِ أنزلنا ومعنى المبارك الكثيرُ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ. وقولُه تعالى: {لّيَدَّبَّرُواْ ءاياته} متعلِّقٌ بأنزلناه أي أنزلنَاهُ ليتفكَّروا في آياتِه التي من جُملتها هذه الآياتُ المعربةُ عن أسرارِ التَّكوينِ والتَّشريعِ فيعرفُوا ما يدبر ظاهرها من المعانِي الفائقةِ والتَّأويلاتِ اللائقةِ وقرئ: {ليتدَّبروا} على الأصل ولتدبَّروا على الخطابِ أي أنتَ وعلماءُ أمَّتك بحذفِ إحدى التَّاءينِ {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الالباب} أي وليتَّعظ به ذَوُو العقولِ السَّلميةِ أو ليستحضرُوا ما هو كالمركوزِ في عقولِهم من فرطِ تمكُّنهم من معرفتِه لما نُصبِ عليه من الدَّلائلِ فإنَّ الكتبَ الإلهيةَ مبيِّنةٌ لما لا يُعرف إلا بالشَّرعِ ومرشدةٌ إلى ما لا سبيلَ للعقلِ إليه.


{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد} وقرئ: {نعم العبدُ} أي سليمانُ كما ينبىءُ عنه تأخيرُه عن داودَ مع كونِه مفعولاً صريحاً لوهبنا ولأنَّ قوله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجَّاع إلى الله تعالى بالتَّوبة أو إلى التَّسبيح مرجع له تعليلٌ للمدح وهو من حاله لما أنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} راجع إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قطعاً وإذْ منصوبٌ باذكُر أي اذكُر ما صدرَ عنه إذْ عُرضَ عليه {بالعشى} هو من الظُّهرِ إلى آخرِ النَّهارِ {الصافنات} فإنَّه يشهدُ بأنَّه أوَّاب وقيل: لنعِم وتأخيرُ الصَّافنات عن الظَّرفينِ لما مرَّ مراراً من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ. والصَّافنُ من الخيلِ: الذي يقومُ على طَرَفِ سُنبكِ يدٍ أو رجلٍ، وهو من الصِّفاتِ المحمودةِ في الخيلِ لا يكادُ يتَّفقُ إلا في العِراب الخُلَّصِ، وقيل: هو الذي يجمعُ يديهِ ويسوِّيهما. وأمَّا الذي يقفُ على سنبكهِ فهو المنخيم {الجياد} جمعُ جوادٍ وجودٍ وهو الذي يُسرع في جريِه وقيل: الذي يجودُ عند الرَّكضِ، وقيل: وُصفتْ بالصُّفون والجَودةِ لبيان جمعها بين الوصفينِ المحمودينِ واقفةً وجاريةً أي إذا وقفتْ كانتْ ساكنةً مطمئنة في مواقفها وإذا جرتْ كانت سِراعاً خِفافاً في جَريها. وقيل: هو جمعُ جيِّد. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسلام غَزَا أهلَ دمشقَ ونصيبين وأصابَ ألفَ فرسٍ وقيل: أصابها أبُوه من العمالقةِ فورثها منه وقيل: خرجتْ من البحرِ لها أجنحةٌ فقعد يوماً بعد ما صلَّى الظُّهر على كرسيِّه فاستعرضَها فلم تزلْ تُعرض عليه حتَّى غربتِ الشَّمسُ وغفلَ عن العصرِ أو عن وِردٍ كان له من الذِّكرِ وقتئذٍ وتهيَّبُوه فلم يعلموه فاغتمَّ لما فاتَه فاستردَّها فعقَرها تقرباً لله تعالى وبقي مائةٌ فما في أيدي النَّاسِ من الجياد فمن نسلها وقيل: لمَّا عقرَها أبدلَه الله خيراً منها وهي الرِّيحُ تجري بأمره. {فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى} قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عند غروب الشَّمسِ اعترافاً بما صدرَ عنه من الاشتغالِ بها عن الصَّلاةِ وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبُه من الأمر بردِّها وعقرِها، والتَّعقيب باعتبار أواخرِ العرض المستمرِّ دون ابتدائِه والتَّأكيدُ للدِّلالةِ على أنَّ اعترافَه وندمَهُ عن صميم القلبِ لا لتحقيقِ مضمونِ الخيرِ، وأصلُ أحببتُ أنْ يعدَّى بعلى لأنَّه بمعنى آثرَ لكن لما أُنيب مُنابَ أنبتُ عُدِّي تعديتَه وحبَّ الخيرِ مفعولُه كأنَّه قيل: أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي ووضعتُه موضعه، والخبرُ المالُ الكثيرُ والمراد به الخيلُ التي شغلته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويحتمل أنَّه سمَّاها خيراً لتعلُّق الخيرِ بها قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «الخيرُ معقودٌ بنواصِي الخيلِ إلى يومِ القيامةِ». وقرئ: {أنِّي} {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} متعلِّق بقوله أحببتُ باعتبار استمرار المحبَّةِ ودوامِها حسب استمرارِ العرضِ أي أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي واستمرَّ ذلك حتَّى توارتْ أي غربتْ الشَّمسُ تشبيهاً لغروبِها في مغربِها بتوارى المخبأةِ بحجابها، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها وقيل: الضمير للصافنات أي توارتْ بحجابِ اللَّيلِ أي بظلامِه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8